“القبوري”.. الخبز الذي يصنعه أهل الصحراء في “قبر”

اعتاد أبناء قبيلة العبابدة بالصحراء الشرقية في مصر، إعداد أطعمة تتوافق مع الطبيعة التي تتميز بقلة الموارد الطبيعية، لكن الخيال الخصب لأهل الصحراء لا يتوقف عند هذه النُدرة، فيتحايل عليها بصنع ما يستطيع به أن يكمل ترحاله في الصحراء، مثل خبز “القبوري”.

ويشير اسم الخبز إلى أصل التسمية، فقطعا له علاقة بـ”القبر”، فما سر هذه العلاقة؟، وكيف يتم صنعه في الصحراء دون أواني أو أدوات، كتلك التي تُستعمل في المنازل الريفية المصرية عند تحضير الخبز.

خبز العبابدة

العم محمد علي من أبناء قبيلة العبابدة، الذي يسكن مدينة الحطابة المحصورة بين البحر الأحمر والصحراء الشرقية، يكشف قصة خبز القبوري، وطريقة إعداده، فيقول إن صنع هذا الخبز يعتمد على توافر الدقيق والماء، ويضاف إليهما بعض الملح، ثم يتحول إلى عجين، ولا يحتاج إلى تخمير، إلى جانب ذلك يتم جلب حطب السمر أو السيال.

ويوضح “عم محمد” لموقع “سكاي نيوز عربية”، طريقة تسوية خبز القبوري؛ إذ يتم إشعال النار في الحطب حتى يتحول إلى جمر، وترتفع درجة حرارة الرمال أسفله حتى تصبح أشبه بباطن فرن.

وبعد إزاحة الجمر جانبا، يوضع العجين على الرمال الساخنة في حفرة قريبة الشبه بالقبر الصغير، ومن هنا جاء أصل التسمية، بعد ذلك يوضع الجمر فوق العجين، وينتظر قرابة نصف الساعة حتى يستوي الخبز.

ويتابع: “بعد أن ينتهي إعداد القبوري، نقوم بتنظيف الخبز الساخن من بقايا الرمال والجمر العالق به، ويكون جاهزا للأكل”، موضحا أنه يُعد في الصحراء حتى يؤكل في وقته، ولا يبقى على حالته الشهية أكثر من ساعتين، لأنه يجف، لافتا في الوقت ذاته إلى أنهم يصنعوه في المنازل بذات الطريقة، لكن باستخدام الأفران الحديثة.

“فضائل” أهل الصحراء

من جانبه، يقول عاطف معتمد، أستاذ الجغرافيا بكلية الآداب في جامعة القاهرة، وأحد المهتمين بثقافة العيش في صحراء مصر، عن خبز “القبوري” الذي صادفه أثناء رحلاته، إنه “قرين بحياة الندرة وقلة الموارد؛ حيث لا توجد حتى أوعية الطهي”.

ويضيف لموقع “سكاي نيوز عربية”، أن العبابدة لم يعرفوا الأواني الفخارية، مثلما هو الحال مع سكان الوادي؛ حيث مياه النيل الجارية والطين الذي يصنع منه الفخار، كما أنهم لا يعرفون الأواني المعدنية، مما جعل طرق طهي الطعام بدائية جدا، فتعتمد على رمل الوادي وحطب السنط؛ مشيرا إلى أن تحضير عجين خبز القبوري يتم دون تخمير.

كما يلفت معتمد إلى أن هناك “وازعا أخلاقيا يجعل القبوري طعاما شهيا، وهو أنه يُطهى ليقتسمه جماعة من الرفاق والأحباب ما بين الخمسة والعشرة”.

ويتابع: “في ذلك فضيلة شهيرة تجعل بينك وبين من أكلت معهم (عيش وملح) يفرض عليك حفظ العهد والأمانة”.

ويستطرد حديثه لموقع “سكاي نيوز عربية”، بالقول: “هناك مغزى من وراء اقتسام القبوري وغيره من الأرغفة الجماعية، وهو أنك حين تأكل لا تنظر فقط إلى نفسك وتلتهم لتشبع بطنك فقط، بل تتابع يمينا ويسارا عدد القطع المقتسمة وما تبقى منها، وما إذا كانت تكفي الجميع، وكثيرا ما يترك الواحد كسرة خبز مفضلا أن تكون من حق أحد رفاقه”.

ويوضح أستاذ الجغرافيا، أن أغلب العبابدة يحافظون -حتى الآن- على طقوس القبوري في الوديان، رغم زحف المدينة عليهم، وتوافر خبز الأفران الجاهزة في المدن القريبة، مثل مرسى علم، والبلدات الأصغر مثل أبو غصون وحماطة وبرنيس.

“اللبة” في سيناء

“القبوري” يوجد أيضا في ثقافات صحراوية أخرى، لكن بأسماء مختلفة، فبحسب الدكتور مصطفى محمد، ‎مدير مركز تدريب جنوب سيناء والبحر الأحمر التابع لوزارة الآثار المصرية‎، فإن هذه الطريقة لإعداد الخبز معروفة لدى أهل سيناء باسم “اللبة“؛ حيث تعتبر وجبتهم الأساسية خلال فصل الربيع.

ويضيف محمد لموقع “سكاي نيوز عربية”، أن أهل سيناء يقومون بإعداده عندما يتركون تجمعاتهم الصغيرة، ليشيد كل رب أسرة بيت شعر يقيم فيه هذا الموسم، حيث تنبت الأرض عشبا نديا تتغذى عليه قطعانهم، لتدر لبنا وتتكاثر.

ويتابع: “البدو المقيمون في الجبال والصحارى دائما في حركة وترحال، وصناعة الخبز عندهم تعتمد على وجود الدقيق فهو الأساس، إلى جانب القليل من الماء، لينتج العجين، أما إذا توفر صاج فيصنعون خبزا اسمه في سيناء “فراشيح”، أما اللبة مثيل القبورى في الصحراء الشرقية، فلا تحتاج غير الجمر”.

 ويختم الرجل حديثه، بالقول: “نحن نحب الفراشيح واللبة أو القبوري، لكنها لا تقارن بالمخبوزات المتعددة في الوادي ودلتا النيل”، لافتا إلى أن ميزة الخبز الصحراوي أنه يخبز كي يؤكل في وقته، وعند تناوله ساخنا على جوع يكون شيئا عظيما.

ويضيف: “إنسان البادية تكيف على العيش بأقل القليل، واكتسب وتوارث مهارات تمكنه من البقاء في ظروف الصحراء القاسية”.

من مصر إلى ليبيا

في ليبيا أيضا يوجد نفس الخبز؛ حيث تمتد ثقافة أهل الصحراء، فيقول الدكتور سليمان السبيعي، عضو هيئة التدريس بجامعة سرت، إنهم يسمون القبوري، “خبزة جمر” أو “خبزة ملة“.

ويقول: “لنا طريقتان في إعداده؛ الطريقة الأولى نفس طريقة العبابدة تماما، ونسميها خبزة ملة، نسبة إلى الملاّل الساخن، وهو التراب الموجود أسفل الجمر”.

أما الطريقة الأخرى، بحسب السبيعي، فهي أن يبسطوا العجين ثم يتم طرحه على الجمر المتقد، حتى تتكون طبقة سميكة قليلا على وجه العجين، لتمنع دخول الرمل، ثم يقلب على الوجه الآخر.

ويتابع: “بعد ذلك يتم إزالة طبقة الجمر، ويدفن الخبز في الملاّل ويغطى بطبقة من الملال يعلوها بعض الجمر، حتى تستوي ثم تقلب على الوجه الآخر. ويختم: “نستخدم نفس طريقة العبابدة في تنظيف الخبز من ما يعلق به من تراب أو جمر”.