حارس الشرف ونظرة العار
تمَّ منعي اليومَ من دخول الحديقة العامة بدافع أنها مكتظة بالنساء والأطفال والآباء، وبدافع أنني أعزب. وهي حديقة تخلو أغلب الأيام من الناس، ذلك لأنّ اليمني الغلبان أصبح يفني كل يومه سعيًا وراء لقمة العيش، يقضيه كله ليكسبَ قوت يومه فقط، أو للحصول على ما تيسَّر من فُتَات الحياة. إنه لم يعد يجد الفرصة للتنزه في الحدائق، أو للقراءة، أو للراحة بين أسرته، أو حتى لتغيير سرواله الداخلي. غادرتُها على الفور بأمر حارس الشرف، وبعد مسافة قصيرة عبرتْ من أمامي جنازة كئيبة منعوشة على أكتاف حشد من الناس. جو الجنازة، كما بدا لي، يشبه إلى حد كبير جو الحديقة التي مُنِعْتُ من دخولها بحجة حماية شرف المرأة من نظراتي الشيطانية الخارقة!
ناس يذهبون إلى الحدائق، وناس يذهبون إلى المقابر. ناس يصعدون سُلّمَ المجدِ على أكتاف المساكين، وناس يصعدون إلى المشانق، وهناك ناس من طراز عجيب؛ إذ لا علاقة لهم بما يجري في الواقع، لا علاقة لهم بأي شيء، وهم لا يعيشون بيننا، مع أنهم موجودون بيننا، ولا يعانون مع الذين يموتون من عبء المعاناة؛ إنهم أسرى أنانيتهم العميقة. وناس باعوا الثقافة واشتغلوا مخبرين ضد الشعب كله وضد البلاد كلها، وما أكثرهم! لهذا، صارت ترعبني تقلُّبات الزمن اللعين.
قال لي المسؤول الأمني عن بوابة الحديقة: ممنوع الدخول لغير العائلات. هكذا منعني لأغادر بعيدًا عن وجهه الأخرق اللئيم. وقد تحوّل إلى ناصحٍ فصيح في تلك اللحظة الحرجة. غير أنّ فصاحته الواهية زادتني قرفًا.
قلت له: لكنني لم آتِ من أجل مغازلة النساء، ذلك مستحيل، وإنما مجيئي من أجل إنعاش روحي الذابلة بمداعبة نسمات الهواء النقي. ثم إنّها حديقة مفتوحة وليست ساحة بورنو مغلقة!
قال بغطرسة: الشرف عندنا فوق كل شيء.
قلت بتواضع: ولكنك تسيء للشرف بهذا السلوك المريض؛ فأنت لا تعنيك آلام الأبرياء المقذوفين على أرصفة الشوارع، ولا تحس بجراح المسحوقين في المستشفيات والسجون، ومشكلات الفقراء ليست حاضرةً لا في ضميرك ولا في ذهنك، المهم عندك هو حراسة التخلف والتطرف والمدافعة عن التفاهات التي أنت تؤمن بها. يا عزيزي، أنت تُهين الشرف بفهمك القاصر له. يا لها من إهانة كبيرة تُرتَكب بحق الشرف، أنْ يدافع عنه عديم الشرف!
وقبل عدة أسابيع، كان حارس البوابة نفسه قد منعني من دخول هذه الحديقة الصغيرة، أيْ حديقة حارتنا التي هي فسحة مجانية من الدولة لأي مواطن. كنتُ ذهبتُ من أجل إصلاح مزاجي الكئيب، وتنقية نفسي من أوساخ الأيام السُّوْد، كما أفعل في العادة، ولكن للأسف رجعتُ من فوري مطرودًا خائبًا. نادرًا ما أدخل هذه الحديقة، ولا أطيق الجلوس فيها أكثر من عشر دقائق، وغالبًا يتم منعي من دخولها لنفس المبررات المذكورة أعلاه. إنها تخلو من تلك الخدمات الترفيهية التي توفرها الحدائق الخاصة، ولا فيها غير مجموعة قليلة من الأشجار الخضراء، وقليل مراجيح غير مريحة ولا آمنة. أنا فحسب أذهب من أجل إراحة نفسي قليلًا في ظِل شجرة طيّبة اعتدتُ الجلوس تحتها منذ زمنٍ طويل. بالطبع، مسموحٌ لك دخول الحديقة على شرط أن تكون لديك عائلة معك. وإلا يدفعك حارس البوابة من صدرك، بيده الخشنة، يركلك لتعود مهزومًا على أعقابك، بعد أن يلقي على سمعك مئات المواعظ الثقيلة في الحلال والحرام، وفي ما يجوز وما لا يجوز، متبوعة بعشرات النصائح المشروخة، إلى أن يصيبك الضجر والخجل، فتضطر سريعًا لمغادرة الحديقة، بل ومغادرة كل شيء، لاعنًا اليوم الذي وُلدتَ فيه، واليومَ الذي عرفتَ فيه الحدائق. إنها مقابر ولكنها مزخرَفة قليلًا.
وإذا ذهبتُ إلى حديقة غيرها، أكانت قريبة مني أو بعيدة، فإنّي سألقى العقوبة نفسها أو الحرمان نفسه. لقد تكرر الأمر ضدي أكثر من مرة، وفي أكثر من حديقة. بل إنه يتكرر كل يوم ضد كثيرين من الشباب الذاهبين للتنزّه. لكي يُسمَح لي بالدخول، لا بد أن أذهب ومعي عائلة أو زوجة أو أخت على الأقل، أو كيس فلوس! وإذا سُمِحَ لي بالدخول، أحيانًا، لا يُسمَح لي بأن أتمشى داخل الحديقة على مشيئة رغبتي؛ إذ هناك من يراقب خطواتك لحظةً بلحظة، وبهذا يُقلِق ابتسامة روحك ويخنق أنفاسك.
ممنوع عليَّ الاختلاط بالنساء في الحدائق، في الجامعات، في المقاهي، بل وفي جميع الساحات المدنية العامة، وكل هذا يحدث بأمرٍ صارمٍ من الأكليروس الديني المُتسلِّط على حريات وحقوق الناس. حرّاس الأخلاق والشرف، هم في الحقيقةِ فارغون من كل ما يدّعون. وكل هذه الجرائم والبشاعات التي تنزل بحياتنا، يوميًا، هي من صنيعهم المخيف المتزايد مع الزمن.
وفي بداية عام ٢٠١٧، انطلقتُ أنا وإحدى زميلاتي في كلية القانون، إلى حديقة السبعين، وبعد دخولنا الحديقة بنصف ساعة، وجلوسنا تحت شجرة هادئة نأكل البسكويت ونشرب العصير ونتناقش بأسلوبٍ مُهذَّب، جاءنا بغتةً أحد عساكر أمن الحديقة، وهو أيضًا مخبر سياسي للسلطة، حقّق مع كلينا بأساليب مزعجة وتعسفية جدًّا، وهكذا نسفَ جلستنا ومزَّقَ راحتنا الدافئة البسيطة، وبالكاد نجونا منه وغادرنا الحديقة استجابةً لبشاعته. لقد نظرَ بطاقتها، ثم نظرَ بطاقتي، فلم يجد أي رابط أسري بيني وبينها، فأسرعَ يطالبنا بورقة الزواج، لكن عبثًا، ومن هنا ضغط بأنفه على موقفنا الشريف، وتنمّر علينا أشدَّ تنمُّرًا. ولو كنا دفعنا له مبلغًا من المال بداية الأمر، كان تركنا وشأننا، وذهب مُستسلِمًا إلى شيطانه. فقط مبلغ مالي بسيط يكسر رقبته المُستكبِرة، ويكفينا شرَّ لصوصيته المكبوتة. إلا أننا لم نحقق مبتغاه الخفي هذا، فطردنا بعد إذلالنا مدة نصف ساعة حتى كدنا نبكي مما نحن فيه.
ومرّة ذهبتُ مع صديقة عزيزة جدًّا، تلبيةً لدعوتها بمناسبة عيد ميلادها، إلى حديقة خاصة، أو بالأحرى، ملهى خاص، ولكننا لم نسلم هناك أيضًا من الأذى الرقابي. هي حرب على المرأة، أجل، عليها وحدها؛ إنها في نظرهم مجرد عورة سهلة الالتهام. وسوء الظن بالمرأة ينبع دومًا من داخل الرجل المريض الجاهل المتزمِّت. والجاهل المُتعصِّب عندما يحرس الأخلاق أو يدافع عنها، فإنه يتجاوز حدودها بغطرسته المُشتنِّجَة، ويُشوِّهها لتصبح قبيحةً طبقًا لصورته الداخلية.
✍🏻 ضيف البراق